الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وما رواه الستة غير التمرذي من قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم صل على آل أبي أوفي» لا يقوم حجة على المانع لأن ذلك كما في المستصفى حقه عليه الصلاة والسلام فله أن يتفضل به على من يشاء ابتداءًا وليس الغير كذلك.وأما السلام فنقل اللقاني في شرح جوهرة التوحيد عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يقال: عليّ عليه السلام بل يقال: رضي الله تعالى عنه، وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر فيقال: السلام أو سلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه انتهى، أقول: ولعل من الحاضر «السلام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادَ الله الصالحين» و«سلام عَلَيْكُمُ دَارَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ» وإلا فهو مشكل، والظاهر أن العلة في منع السلام ما قاله النووي في علة منع الصلاة من أن ذلك شعار أهل البدع وأنه مخصوص في لسان السلف بالأنبياء والملائكة عليهم السلام كما أن قولنا: عز وجل مخصوص بالله سبحانه فلا يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزًا جليلًا صلى الله عليه وسلم، ثم قال اللقاني: وقال القاضي عياض: الذي ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك وسفيان، واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالصلاة والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [المائدة: 119] {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} [الحشر: 10] وأيضًا أن ذلك في غير من ذكر لم يكن في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبيه بأهل البدع منهى عنه فتجب مخالفتهم انتهى، ولا يخفى أن مذهب الحنابلة جواز ذلك في غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام استقلالًا عملا بظاهر الحديث السابق، وكراهة التشبيه بأهل البدع مقررة عندنا أيضًا لكن لا مطلقًا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم كما ذكره الحصكفي في الدر المختار فافهم.ثم التعرض لوصف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر في هذا الفريق مع أن مساق الكلام لبيان الفرق بين الفريقين في بيان شأن اتخاذ ما ينفقانه حالا ومآلا وأن ذكر اتخاذه سببًا للقربات والصلوات مغن عن التصريح بذلك لكمال العناية بإيمانهم وبيان اتصافهم به وزيادة الاعتناء بتحقق الفرق من أول الأمر، وأما الفريق الأول فاتصافهم بالكفر والنفاق معلوم من سياق النظم الكريم صريحًا.وجوز عطف {وصلوات} على {مَا يُنفِقُ} وعليه اقتصر أبو البقاء أي يتخذ ما ينفق وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام قربات {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} شهادة لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه وتصديق لرجائهم، والضمير إما للنفقة المعلومة مما تقدم أو لما التي هي بمعناها فهو راجع لذلك باعتبار المعنى فلذا أنث أو لمراعاة الخبر.وجوز ابن الخازن رجوعه للصلوات والأكثرون على الأول، وتنوين {قُرْبَةٌ} للتفخيم المغنى عن الجمع أي قربة لا يكتنه كنهها، وفي إيراد الجملة اسمية بحرفي التنبيه والتحقيق من الجزالة ما لا يخفى.والاقتصار على بيان كونها قربة لهم لأنها الغاية القصوى وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام من ذرائعها وقرئ {قُرْبَةٌ} بضم الراء للاتباع {سَيُدْخِلُهُمُ الله في رَحْمَتِهِ} وعد لهم بإحاطة رحمته سبحانه بهم كما يشعر بذلك {فِى} الدالة على الظرفية وهو في مقابلة الوعيد للفرقة السابقة المشار إليه بقوله تعالى: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 98] وفيه تفسير للقربة أيضًا، والسين للتحقيق والتأكيد لما تقدم أنها في الإثبات في مقابلة لن في النفي، وقوله سبحانه: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تقرير لما تقدم كالدليل عليه، والآية كما أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وغيرهم عن مجاهد نزلت في بني مقرن من مزينة.وقال الكلبي: في أسلم وغفار وجهينة وقيل: نزلت التي قبلها في أسد وغطفان وبني تميم وهذه في عبد الله ذي البجادين بن نهم المزنى رضي الله تعالى عنه. اهـ.
.قال القاسمي: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ}.امتثالًا لأمره، وترجيحًا لحبه، وقطعًا لحب ما سواه.و: {قُرُبَاتٍ} مفعول ثان ليَتَّخِذُ، وجمعها باعتبار أنواعها، أو أفرادها.قال الشهاب: القُربة بالضم، ما يتقرب به إلى الله، ونفس التقرب، فعلى الثاني يكون معنى اتخاذها سببًا له، على التجوز في النسبة أو التقدير.و: {عِنْدَ اللَّهِ} صفة لقُرُبَاتٍ، أي: ظرف ليَتَّخِذُ {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أي: سبب دعواته بالرحمة المكملة لقصوره، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى» {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} الضمير لما ينفق، والتأنيث باعتبار الخير، والتنكير للتفخيم، أي: قربة عظيمة جامعة لأنواع القربات، يكملها الله بدعوة الرسول، ويزيد على مقتضاها بما أشار إليه بقوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} أي: جنته.{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} يستر عيب المخلّ: {رَحِيمٌ} يقبل جهد المقلّ.قال الزمخشري: قوله تعالى: {ألَا إِنَّهَا} شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد، من كون نفقته قربات وصلوات وتصديقًا لرجائه، على الإستئناف، مع حرفي التنبيه والتحقيق، المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه.وكذلك: {سَيُدْخِلُهمُ} وما في السين من تحقيق الوعد.وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان، إذا خلصت النية من صاحبها. انتهى.وفيه الانتصاف: النكتة في إشعار السين بالتحقيق أن معنى الكلام معها: أفعل كذا، وإن أبطأ الأمر، أي: لابد من فعله، قال الشهاب: وفيه تأمل. اهـ..قال ابن عاشور: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} هؤلاء هم المؤمنون من الأعراب وفَّاهم الله حقهم من الثناء عليهم، وهم أضداد الفريقين الآخَرين المذكورين في قوله: {الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا} [التوبة: 97] وقوله: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مَغرمًا} [التوبة: 97].قيل: هم بنو مُقَرّن من مزينة الذين نزل فيهم قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} [التوبة: 92] الآية كما تقدم.ومن هؤلاء عبد الله ذو البجادين المزَني هو ابن مغفل.والإنفاق هنا هو الإنفاق هناك.وتقدم قريبًا معنى {يتخذ}.و{قربات} بضم القاف وضم الراء: جمع قربة بسكون الراء.وهي تطلق بمعنى المصدر، أي القرب وهو المراد هنا، أي يتخذون ما ينفقون تقربًا عند الله.وجَمْع قربات باعتبار تعدد الإنفاق، فكل إنفاق هو قربة عند الله لأنه يوجب زيادة القرب.قال تعالى: {يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيُّهم أقرب} [الإسراء: 57].ف {قربات} هنا مجاز مستعمل في رضى الله ورفع الدرجات في الجنة، فلذلك وصفت بـ {عند} الدالة على مكان الدنو.و(عند) مجاز في التشريف والعناية، فإن الجنة تشبّه بدار الكرامة عند الله.قال تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر: 54، 55].و{وصلوات الرسول} دعواته.وأصل الصلاة الدعاء.وجمعت هنا لأن كل إنفاق يقدمونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بسببه دعوة، فبتكرر الإنفاق تتكرر الصلاة.وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على كل من يأتيه بصدقته وإنفاقه امتثالًا لما أمره الله بقوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} [التوبة: 103].وجاء في حديث ابن أبي أوفَى أنه لما جاء بصدقته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم صل على آل أبي أوْفَى».ويجوز عطف {صلوات الرسول} على اسم الجلالة معمولًا لـ {عند}، أي يتخذون الإنفاق قربة عند صلوات الرسول، أي يجعلونه تقربًا كائنًا في مكان الدنو من صلوات الرسول تشبيهًا للتسبب في الشيء بالاقتراب منه، أي يجعلون الإنفاق سببًا لدعاء الرسول لهم.فظرف (عند) مستعمل في معنيين مجازيين.ويجوز أن يكون {وصلوات الرسول} عطفًا على {قربات عند الله}، أي يتخذ ما ينفق دعوات الرسول.أخبر عن الإنفاق باتخاذه دعوات الرسول لأنه يتوسل بالإنفاق إلى دعوات الرسول إذ أمر بذلك في قوله تعالى: {وصل عليهم} [التوبة: 103].وجملة: {ألا إنها قربة لهم} مستأنفة مسوقة مساق البشارة لهم بقبول ما رجوه.وافتتحت الجملة بحرف الاستفتاح للاهتمام بها ليعيها السامع، وبحرف التأكيد لتحقيق مضمونها، والضمير الواقع اسم (إنَّ) عائد إلى ما (ينفق) باعتبار النفقات.واللام للاختصاص، أي هي قربة لهم، أي عند الله وعند صلوات الرسول.وحذف ذلك لدلالة سابق الكلام عليه.وتنكير {قربة} لعدم الداعي إلى التعريف، ولأن التنكير قد يفيد التعظيم.وجملة: {سيدخلهم الله في رحمته} واقعة موقع البيان لجملة {إنها قربة لهم}، لأن القربة عند الله هي الدرجات العلى ورضوانه، وذلك من الرحمة.والقربة عند صلوات الرسول صلى الله عليه وسلم إجابة صلاته.والصلاة التي يدعو لهم طلب الرحمة، فمآل الأمرين هو إدخال الله إياهم في رحمته.وأوثر فعل الإدخال هنا لأنه المناسب للكون في الجنة، إذ كثيرًا ما يقال: دخل الجنة.قال تعالى: {وادخلي جنتي} [الفجر: 30].وجملة: {إن الله غفور رحيم} تذييل مناسب لما رجوه وما استجيب لهم.وأثبت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الخبر، أي غفور لما مضى من كفرهم، رحيم بهم يفيض النعم عليهم.وقرأ الجمهور {قرْبة} بسكون الراء، وقرأه ورش وحده بضم الراء لاتباع القاف. اهـ..قال الشعراوي: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} ومن هؤلاء من يؤمن بالله، ويؤمن باليوم الآخر، وما ينفقه من زكاة أو صدقة فهو يتخذه قربى إلى الله الذي آمن به، وكنزًا له في اليوم الآخر، وقربى: أي: شيء يقربه إلى الله؛ يدخره له في اليوم الآخر، وقول الحق: {وَصَلَوَاتِ الرسول} أي: يجعل ما ينفق قربة إلى الله وكذلك طلبًا لدعاء الرسول؛ لأن الصلاة في الأصل هي الدعاء، فساعة يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة للمسلمين الضعاف ممن يعتبرها قربة، فهو صلى الله عليه وسلم يدعو له.وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لآل أبي أوفى، وبارك لهم».وقد دعا بذلك حين جاء له ما تزكى وتصدق به بنو أبي أوفى، ودعوة الرسول مجابة إلا ما قال الله إنه سبحانه لا يجيبه لحكمة.ولقائل أن يقول ألا يعلم من يقدم الزكاة والصدقة قربى، أنه سبحانه غير مستفيد من هذا الحمل؟ ألا يعلم أنها قربى له شخصيًّا؟ نعم إنه يعلم، ويعلم أن الله يثيبه على أمر ينتفع به الفقراء، وفي هذه إشارة إلى أن كل تكليف من الله إنما يعود نفعه إلى المكلَّف لا إلى المكلِّف. وما دام العائد إلى المكلَّف؛ فالله يدعو لصالح ذاتك وإلى خير لك.ومن اعتبرها قربى إلى الله يأت لهم القول الحق: {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ} وقد قال ذلك للأعراب الذين أنفقوا قربى لله، وطمعًا في دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فأوضح لهم سبحانه أنها قربى لهم؛ لأنهم المنتفعون بها، وأنه سيدخلهم في رحمته. ورحمة الله هي نعيم مقيم، وهي دائمة وباقية ببقاء الله الذي لا يُحَدّ، أما الجنة فباقية وخالدة. بإبقاء الله لها. إذن: فدخولك في رحمة الله أعلى من دخولك جنته.فحين يقال: دخل في الرحمة فمعنى ذلك أن الرحمة ستظله إلى ما لا نهاية.وحينما يسمع أي أعرابي قول الحق: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله وَصَلَوَاتِ الرسول ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ}؛ فعندما سمع الأعرابي هذه الآية جلس يحدث نفسه بالعطاءات الإلهية. فيكبح جماح خطرات السوء في نفسه، أو بالزلات أو بالهفوات التي قد ينطق بها، وقد يقول الأعرابي لنفسه: إني أخاف ألا يغفر الله الخطرات أو السيئات والهفوات، فتأتي الآية مظمئنة له ما دام قد فعل السيئة بغفلة أو بسهو، وعليه أن يعلم أن الله غفور رحيم، ولا داعي أن يعكر على نفسه بالظن بأنه لن يدخل في رحمة الله.لذلك جاء سبحانه بالقول: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لعل واحدًا ممن يسمع هذا؛ يظن أن الجزاء والقربى والدخول في رحمة الله خاصٌّ بمن لم يذنب ذلك أبدًا، فيوضح له القول: اطمئن. إن كنت قد حصلت منك هفوة أو غفلة، فاعلم أن الله غفور رحيم، فلا يعكر عليك ذنبك إيمانك بأنك سوف تدخل في رحمة الله. اهـ.
|